النهضة هي مرحلة من مراحل بناء حضارات الأمم، فصحوة الأمم هي المرحلة الأولى في قطار بناء الحضارة التي تصحو به الأمم من غفوتها وتنهض به من سباتها، وسمة هذه المرحلة هي الحركة الذاتية والانطلاقة التلقائية، ولكنها مرحلة ضرورية في بيان هذه الأمم فيما تريد ثم تأتي مرحلة اليقظة؛ حيث ترشيد الحركة الذاتية، وهي مرحلة تأسيس قيادات الأمة وبناء الشخصية المسلمة الواعية المدركة، فتنتج لنا قيادات تحسن التعامل مع تاريخها وإدارة حاضرها، واستشراف مستقبلها، وهذا ما يدافع بالأمة إلى نهضتها؛ حيث المرحلة الثالثة، وهي المرحلة التي تتشكل فيها ملامح الأمة، وهي مرحلة تتسم بالرقي في مجالات أربعة أساسية "النظام السياسي والموارد الاقتصادية والقيم الدينية والأخلاقية والعلوم والفنون"، وهي عناصر الحضارة الأربعة وهي بشائر تحقيق القاطرة الأخيرة، وهي بناء الحضارة.
لقد عاشت مصر زمنًا طويلاً فيما يُسمَّى بالصحوة الإسلامية، دون أن نرى ملامح للمرحلة التالية لها، وهي مرحلة اليقظة، ودون أن تتمخض هذه المرحلة عن وعي كامل بمجددات تلك المرحلة وما تحتاجه من مهارات وإمكانات تمكنها من عمل نقلات وقفزات نوعية في طريق التنمية والريادة، ولعل هذا ما تسبب في تأخير الأمة وتأجيل نهضتها، وكان ذلك بسبب الظلم الواقع على مَن ظهر من الرواد، وتحالف مع الفساد والبغي الذي قتل النخوة، وأضاع الرجولة، وقضى على الإخلاص والحوافز الإيمانية والوطنية، وترك الناس بلا هوية أو عزيمة.
كما أن أعداء الأمة عملوا على فصل مصر، وهي في الوقت نفسه تمثل محور الأمتين العربية والإسلامية، فبنهضتها تنهض تلك البلاد كأمة واحدة، وبتخلفها وتقاعسها تتخلف تلك البلاد؛ وليس هذا إلا لمصر، وحتى وإن حاولت هذه البلدان النهوض بنفسها ومن حولها بعيدًا عن مصر؛ فسيكون ذلك صعبًا وليس مستحيلاً، ولنتذكر كيف لم تستطع مجموعةٌ من الدول العربية عقد قمة غزة لمجرد رفض مصر لذلك، وهذا ليس تحيزًا بل واقعًا دلَّت عليه أحداث التاريخ، وإلا فإن هناك دولاً إسلامية استطاعت العبور إلى طريق النهضة كماليزيا مثلاً أو تركيا، ولكنها لا تمثل محورًا للدول الإسلامية ولم تنهض الأمة بنهضتها.
ولنذكر مثلاً يوضح تلك الفكرة من جهاد رجالات النهضة ممثلاً في جهاد الإخوان المسلمين وإخلاص رجالهم وما تحملوه من عنتٍ، وما زال المسلسل مستمرًّا.
يحكي الأستاذ الهضيبي عن حياته قبل لقائه بالإخوان وبعد لقائه بهم تحت عنوان أول لقاء بفكرة الإخوان..
"ظللتُ أطوف بالبلدان من مركز إلى مركز ومن مديرية إلى مديرية، ومن محكمة إلى محكمة.. وهكذا مضت حياتي رتيبة عادية لا تستحق الذكر بلغة برقيات ميادين القتال.. إلى صيف 1944م.
كنتُ في القرية، واجتمعت بلفيف من شباب البلدة، وأخذنا نتحدث في مختلف المشكلات العامة.. وهالني ما سمعت.. سمعت شبابًا محدودي الثقافة والتعليم يتكلمون في المسألة الوطنية كأحسن ما يتكلم المفكرون السياسيون.. ويتحدثون في المسائل الدينية كأحسن ما يتحدث العلماء المتمكنون.
وعجبتُ لهذا، فسألتهم عن مصدر هذا العلم، فقالوا إنهم ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين، وإن مطبوعات الجمعية ومنشوراتها وتعاليمها تصلهم بانتظام.. وطلبتُ منهم أن يزودوني بهذه المطبوعات.
ولم أنمْ هذه الليلة حتى الصباح، فقد ظللتُ أقرأ وأقرأ حتى الفجر، ثم صليتُ الفجر.. ولم تكد تطلع الشمس حتى اعتبرتُ نفسي جنديًّا في هذه الجماعة الكبرى، وكان هذا أول لقاء لي بفكرة الإخوان.
ومن هذا اليوم أصبحتُ أعدُّ نفسي أخًا لهم جميعًا، أتتبع نشاطهم وصحفهم وأنباءهم، واتصلتُ ببعضهم وأنا مستشار.
وذات يوم كان محددًا عقد اجتماع ضخم سيخطب فيه الإمام الشهيد حسن البنا، وقيل لي إن دعوةً رسميةً ستصلني لحضور الاجتماع ولم تصل الدعوة.
وعلمت فيما بعد أنه كانت هناك أوامرُ لمصلحة البريد من وزارة الداخلية بتمزيق الدعوات الخاصة بالإخوان المسلمين، وقد مُزقت الدعوة التي وُجهت إليَّ.
وبرغم هذا فقد قرَّرت أن أحضر الاجتماع بأي ثمن ونزلت أنا وأربعة من زملائي المستشارين واتجهنا نحو الاجتماع، وكان في الجيزة، ودخلنا السرادق الكبير، فلم نجد موضعًا لإصبع لا لقدم، وبرغم ذلك فقد شققنا طريقنا، وعرفنا بعض المحامين الأقباط الذين حضروا الاجتماع فقدموا لبعضنا مقاعدهم، ولكني أصررتُ على أن أجلس على الأرض لأستمع إلى حسن البنا.
وكم سمعتُ خطباء وكنت أتمنى في كل مرةٍ أن يسرعوا إلى النهاية، وهذه المرة كنت أخاف أن يختم حسن البنا خطابه، كنت في قلقٍ مستمر من أن ينتهي قبل أن أشنف أذني وعقلي وقلبي من هذا السحر.
مائة دقيقة انقضت عليه وهو يجمع قلوب المسلمين في قبضة يده، فيهزها كما يشاء وكما يريد، وانتهت خطبته وردَّ إلى المستمعين قلوبهم إلا قلبي أنا فقد ظلَّ في يده.
أول لقاء مع الأستاذ البنا:
وازددتُ اقترابًا من الإخوان.. بدأت أتصل بهم وأعرف بعضهم.. إلى أن جاءت ليلة.. كنت في مكتبي أراجع بعض القضايا.. ودق الجرس ولم يكن من عادتي أن أفتح الباب.. ولكن لا أدري لماذا قمت.. ولماذا ذهبت، ولماذا فتحت الباب؟ لأجد حسن البنا.. وتعانقنا.. ودخل إلى بيتي.. وجلسنا نتحدث في شتى الشئون.
وصلينا العشاء معًا.. وخرج المرشد.. وبدأت أضع عقلي بعد قلبي في خدمة الإخوان.
آخر لقاء مع الإمام الشهيد:
كانت الساعة الحادية عشرة مساءً، ودق الجرس وفتحت الباب، ودخل حسن البنا يحمل إليَّ آخر أنباء مفاوضاته مع الحكومة، ولا أعلم لماذا كنتُ منقبضًا.. لماذا كنتُ ضيقَ الصدر.. لماذا تجمعت فوق طرف لساني كلمة (القتل).. كنت أحس أن هذا الرجل سيُقتل.. ستغتاله يد أثيمة.. فإن الحكومة- أي حكومة- لا يمكن أن تعجز عن قتل رجل أعزل إلا من الإيمان.
وأراد أن ينصرف.. وصافحته.. وإذا بي أعانقه وأقبله.. ولا أكاد أمسك دموعي أو أخفيها.. وابتسم رحمه الله وقال: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا﴾ (التوبة: من الآية 51).
وابتلعه الظلام.. وفي اليوم التالي ابتلعه الظلم.. فقد اغتالت الحكومة المصرية في 12 فبراير 1949م مواطنًا مصريًّا اسمه حسن البنا.. وتعهَّدت هذه الحكومة لا بإخفاء معالم الجريمة فحسب.. ولكن بمكافأة القاتل.
وضاع رائد نهضة إسلامية وطنية كانت كفيلة بإيقاظ الشرق والعالم الإسلامي كله، ونحن ندري وكل مخلص يعلم علم اليقين لحساب مَن كان قتل هذه النهضة المباركة التي ما زال مسلسلها مستمرًّا تُحركه الأصابع التي كانت خفيةً، ولكنها ظهرت للعيان اليوم.
ولكن لكل يتحفز للخلاص من هذا الضياع، وإن شاء الله سيكون الفوز القريب ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)﴾ (الشعراء).
ولله در القائل:
عرفتم حقنا فجحدتموه كما عرف السواد من البياض
كتاب الله شاهدنا عليكم وقاضينا الإله فنعم قاضٍ